المتابعون

الاثنين، 15 مارس 2010

هل تموت الأيدولوجيا في زمن العولمة؟


يستخدم الإنسان بشكل متكرر أفكارًا ومفاهيم سياسية عند التعبير عن الرأي، أو إبداء وجهات النظر، والمفردات المتداولة في الخطاب العام مليئة بمصطلحات ومفاهيم سياسية كالحرية والعدل والمساواة والحقوق.
بيد أنه وبرغم كون العديد من المفاهيم والمصطلحات السياسية شائعة ودارجة، فإنها لا تستخدم بشكل دقيق أو مع إحاطة كلية وواضحة بمعانيها.
فما هي "العدالة" مثلاً ؟ وما معنى أن نقول: إن الناس سواسية؟ هل يعني ذلك أن يحصل الناس على حقوق متساوية، وفرص متساوية وتأثير سياسي متكافئ وأجور واحدة؟!
وبالمقابل فإن مفاهيم مثل: شيوعي وفاشي يساء استخدامها في وصف المخالف في الرأي، فما معنى أن نصف شخصًا بأنه "فاشي"؟ وما دلالة ذلك؟ وما هي المعتقدات والآراء التي يحملها الفاشيون، ولماذا يحملونها؟ وما الفارق الجوهري بين الشيوعيين والليبراليين والمحافظين والاشتراكيين؟
عند دراسة الأيدولوجية تثور أسئلة رئيسة منها:
أولاً: ما هو الدور الذي تلعبه الأفكار والنظريات في السياسية؟
ثانيًا: ما هي طبيعة الأنساق العقيدية التي تتطور في إطارها هذه الأفكار لتشكل أطروحات متكاملة، أي ما هي الأيدولوجيا السياسية؟
الأفكار ودورها
لا يوجد إجماع بين المفكرين السياسيين على درجة أهمية وتأثير الأفكار والأيدولوجيات، فالسياسة أحيانًا تبدو محض صراع سافر على السلطة لا شأن له بالفكر والفلسفة، وحينئذ تظهر الأفكار كمجرد شعارات دعائية وكلمات جوفاء هدفها الوحيد كَسْب أصوات انتخابية أو الحصول على دعم شعبي، وتصبح الأفكار والأيدولوجيات غطاء يستر خفايا الصراع الدائر في الحياة السياسية، وهذه النظرة للأفكار والأيدلوجية هي التي تبنَّتها المدرسة السلوكية في مجال علم النفس، والتي كان من أبرز روَّادها "جون واطسون" (1878 – 1958م) و"ب.ف. سكينر" (1904 – 1990م)، والتي نظرت للإنسان باعتباره آلة بيولوجية تستجيب لما حولها من مثيرات فحسب، وقضايا التفكير والقيم والمشاعر والنوايا كلها مسائل هامشية في تفسير الظواهر الاجتماعية أو السلوك الإنساني، وهي أيضًا الرؤية التي انطلقت منها المادية الجدلية كأحد الأشكال الحادة للماركسية، تلك المادية الجدلية التي سيطرت على مدارس العلوم الإنسانية والاجتماعية في الاتحاد السوفييتي السابق والمعسكر الشيوعي، لقد اعتبرت هذه الاتجاهات الأفكار والأيدولوجيات السياسية مجرد انعكاس للواقع والعلاقات الاقتصادية/ المادية/ وتعبير عن مصالح الطبقات التي تصوغها، الأفكار إذن في نظرهم ذات أساس مادي ومجرد تعبير طبقي، وليس لها معنى أو دلالة في ذاتها.
غير أن هناك آخرين يرون العكس تمامًا، فالاقتصادي البريطاني الشهير "جون كينز" يذهب إلى أن الذي يحكم العالم أفكار الفلاسفة السياسيين والمفكرين الاقتصاديين التي يستند إليها رجال السياسة والسلطة في ممارساتهم، حتى إن ادعوا أنهم "عمليون" لا شأن لهم بالأفكار المجردة، ففي مقابل اعتبار السلوكية والمادية الجدلية الأفكار مجرد مرآة للواقع، يؤكد رأي كينز أن الأفكار والأيدولوجيات هي مصدر الفعل الإنساني، والعالم تحكمه مجموعة أفكار نظرية وليس مجرد قوى الصراع المادي، وعلى ذلك فالرأسمالية الحديثة نبعت من الأفكار الاقتصادية الأولى لآدم سميث وديفيد ريكادرو، وآلة الشيوعية السوفييتية هي ثمرة لأفكار كارل ماركس ولينين، وتاريخ النازية في ألمانيا لا يمكن فهمه إلا في ضوء الأفكار التي نقرؤها في كتاب "كفاحي" لأدولف هتلر الذي كتبه قبل توليه السلطة.
والحق أن كلا الرأيين متحيز وغير ملائم بمفرده لفهم الحياة السياسية، فالأفكار السياسية ليست مجرد انعكاس سلبي لمصالح ضيقة أو طموحات فردية، بل تحمل قوة وقدرة على التأثير في الفعل السياسي، وبالتالي تغيير الواقع، وفي الوقت ذاته فإن الأفكار السياسية لا تنشأ في فراغ ولا تهبط من السماء كقطرات المطر، بل هي متأثرة بسياقها التاريخي والاجتماعي، وتنشأ وتتطور في إطاره، وتخدم طموحات وتوازنات سياسية قائمة.
وباختصار فإن النظريات السياسية لا تنفصل عن الممارسة السياسية، وأي دراسة متوازنة ورصينة للحياة السياسية لا بد أن ترعى التفاعل المستمر بين الأفكار والأيدولوجيات من ناحية، والقوى المادية والتاريخية من ناحية أخرى، وتؤثر الأفكار والأيدولوجيات في الحياة السياسية بطرق مختلفة، ففي المقام الأول تقدم الأيدولوجيا نسقًا نظريًّا يمكن من خلاله فهم العالم وتفسيره، فالإنسان لا يرى الواقع كما هو، بل يدركه وفق تصوراته وأفكاره الذاتية ومعتقداته، وسواء كان الفرد على وعي بذلك أم لا فإن كل إنسان يتخذ له مرجعية من قيم وأفكار سياسية تحدد سلوكه وتؤثر على أفعاله، فالأفكار والأيدولوجيات إذن تضع أهدافًا كبرى هي التي تؤثر في العقل والنشاط السياسي وتوجهه، وفي هذا الصدد يتعرض السياسيون لنوعين من المؤثرات المختلفة بل والمتناقضة أحيانًا: فلا شك أن السلطة هي هدف رجل السياسة وهو ما يفرض عليه أن ينحو منحى عمليًّا، وأن يتبنى السياسات والأفكار التي تمكنه من حصد الأصوات الانتخابية وإقامة التحالفات مع الجماعات المؤثرة كرجال الأعمال والعسكريين، لكن رجل السياسة في الوقت نفسه له معتقدات وقيم وقناعات بشأن الطريقة المثلى للإدارة السياسية عندما يصل للسلطة، ويختلف شكل التوازن بين الاعتبارات الأيدولوجية والاعتبارات العملية من سياسي لآخر، ومن مرحلة لأخرى في عمر السياسي الواحد، فهتلر - على سبيل المثال - كان ملتزمًا بشكل متطرف ومتعصب لأهداف أيدولوجية معينة كان أبرز سماتها العداء لليهود والتعصب للجنس الجرماني، وتأسيس دولة ألمانية تضم شرق أوروبا، والشيوعيون الماركسيون أمثال لينين أخلصوا لهدف بناء مجتمع شيوعي لا طبقي، لكن في الوقت نفسه لا يوجد سياسي يملك أن تحجب قناعاته الأيدولوجية عينه عن تطورات الواقع ومتطلباته، ولا بد من عقد تحالفات والوصول إلى صيغ حلول وسط إذا كان يريد أن يصل إلى السلطة، ويحتفظ بها، فهتلر لم يُعادِ اليهود بدرجة واحدة من البداية للنهاية، بل حكمت سياساته اعتبارات عديدة في كل لحظة تاريخية، ولينين الشيوعي أقر عام 1921م مجموعة سياسات اقتصادية سمحت ببعث قطاع خاص هامشي في روسيا.. وهكذا.
وعلى جانب آخر نجد أن السياسة في الولايات المتحدة الأمريكية - كما في غيرها من البلدان الأخرى - تشبه فيها الشخصية السياسية السلعة التجارية، فيتم "تسويق" رجل السياسة (أو امرأة السياسة) كشخص له شعارات براقة ومظهر جذاب وأهداف عملية تخدم الجماهير دون إعطاء الأفكار والأيدولوجيات أهمية تذكر، لكن نكرر ثانية أن السياسيين لا يمكن أن يكونوا مجرد آلات باحثة عن السلطة بطريقة عملية براجماتية، فأهمية الأفكار في السياسة الأمريكية لا تظهر بشكل جلي؛ لسبب بسيط هو تقارب حزب الأغلبية الديمقراطي والمحافظ في الرؤية والأهداف والقيم الليبرالية الأساسية، وبالتالي فالشعارات والتمايز يدور حول السياسات العامة والإجراءات لوجود هذا المشترك الجامع من "الأيدولوجية الأمريكية" التي تؤمن بحرية السوق وتعتنق مبادئ الدستور الأمريكي.
وتساعد الأفكار السياسية أيضًا في تشكيل طبيعة وسمت الأنظمة السياسية، تلك الأنظمة التي تتفاوت وتختلف من مكان لآخر، والتي ترتبط بقيم ومبادئ معينة، فتاريخيًّا ارتبط الحكم الملكي بمجموعة قيم ومفاهيم، أبرزها الحق الإلهي للملوك في الحكم، أما في معظم الدول الغربية المعاصرة فيتأسس نظام الحكم على المبادئ الليبرالية الديمقراطية، وتحترم هذه الدول بعض أفكار تقيد الحكومة بقيود دستورية، وتفصل بين السلطات، وتؤمن بفكرة التمثيل السياسي عبر انتخابات حرة نزيهة قائمة على المنافسة.
وبالمقابل فقد تأسست النظم الماركسية/ الشيوعية في السابق على أفكار ماركس ولينين، فسادَها حزب شيوعي أوحد يمثل الطبقة العاملة (البروليتاريا)، وحتى شكل الدولة القومية التي تمسك فيها الحكومة بزمام السلطة، وتحتكر استخدام القوة، والذي ساد في القرن العشرين كان نتاج أفكار سياسية أبرزها فكرة القومية وحق تقرير المصير.
وختامًا فإن الأفكار السياسية والأيدولوجيات تلعب دورًا مهمًّا في خلق التضامن الاجتماعي وتزود الجماعات المختلفة والمجتمع في مجمله بمجموعة معتقدات وقيم تؤدي لتماسكه، هذا رغم أن الأيدلوجيات ارتبطت في التصور العام بطبقات بعينها كارتباط الليبرالية بالطبقة الوسطى والمحافظة بالأرستقراطية الإقطاعية والاشتراكية بالطبقة العاملة، ورغم أن هذه الأيدولوجيات عكست تجارب وخبرات ومصالح فئات اجتماعية بعينها، فإنها أيضًا كانت صالحة لخلق روابط مشتركة بين الطبقات والفئات المختلفة في إطار مجتمع واحد، فعلى سبيل المثال تظل الليبرالية الديمقراطية مظلة أيدولوجيا واسعة تربط الأفراد والجماعات في الغرب، في حين تمثل مبادئ الإسلام وقيمه الرابطة الأساسية بين الأفراد والجماعات في العالم الإسلامي، وحين تسود ثقافة سياسية مشتركة في مجتمع؛ يؤدي ذلك لدعم النظام واستقرار هذا المجتمع.
وهذه الثقافة السياسية المشتركة ليست جامدة، بل هي تتطور وتنمو داخل أي جماعة، لكنها أيضًا قد يتم فرضها من السلطة الأعلى التي تسعى لغرض الطاعة، وتتحكم في الضبط الاجتماعي؛ ولذا فقد تختلف قيم ومفاهيم وأيدولوجيا النخب الحاكمة من عسكريين أو طبقة إقطاعية أو رأسمالية صناعية عن قيم ومفاهيم غالبية الشعب، وقد تستخدم النخبة الحاكمة أدوات الأيدولوجيا لقمع المعارضة، وتحجيم النقاش والجدل الفكري عبر عملية سيطرة أيدولوجية، ويبدو هذا جليًّا في التجارب التي سادت فيها أيدولوجية رسمية معلنة كما في الحكم النازي في ألمانيا أو الحكم الشيوعي في الاتحاد السوفييتي السابق، وفي هذين النموذجين كانت المعتقدات السياسية الرسمية هي التي تسود الحياة السياسية وكافة جوانب الحياة الاجتماعية من تعليم وفنون وإعلام، وكانت الآراء والقيم المعارضة يتم قمعها ومصادرتها. ويرى البعض أن هناك نوعًا من السيطرة الأيدولوجية المستترة يسود بشكل أو آخر في كل المجتمعات، وحتى في المجتمعات الغربية فإن الأيدولوجيا السائدة هي تلك التي تخدم مصالح الطبقة الاقتصادية المسيطرة.
ما هي الأيدولوجيا؟
كثيرًا ما يخلط البعض بين دراسة الأيدولوجية ودراسة الأيدولوجيات، فدراسة الأيدولوجية هي دراسة لنوع من أنواع الفكر السياسي تمييزًا له عن الفلسفة السياسية أو العلوم السياسية، وهو تحليل طبيعة ودور وأهمية هذا النوع أو التصنيف من الفكر السياسي، ويناقش ما هي الأفكار والأطروحات التي ينطبق عليها وصف "أيدولوجيا"، وهل اعتناق الأيدولوجيا يؤدي لعملية تحرر أم عبودية للفكرة؟ وهل يمكن تقويم الأيدولوجيات وفق منطق الخطأ والصواب؟.. وهكذا.
وبالنسبة للأيدولوجيات المختلفة: هل يمكن تصنيف الاتجاه المحافظ والأفكار القومية كأيدلوجيات تكافئ الليبرالية والاشتراكية؟
هذه هي الأسئلة التي تنشغل بها دراسة الأيدولوجيا كنسق من الأفكار والافتراضات والمبادئ يسعى لتقديم إجابات كلية، ويوظف معتنقه طاقته في تحقيقه في الواقع.
أما دراسة الأيدولوجيات - في المقابل - فهي دراسة مضمون الفكر السياسي والنظريات والأفكار التي قدمتها كل أيدولوجية والمقارنة بينها، فما هي الحرية في الفكر الليبرالي؟ ولماذا كانت المساواة هي الفكرة المحورية في الاشتراكية؟ وكيف يدافع الأناركيون عن فكرة مجتمع بلا دولة؟ ولماذا اعتبر الفاشيون الصراع والحروب ظواهر صحية؟
أي أن دراسة الأيدولوجيا هي دراسة في نشأة وتطور واعتناق وتطبيق وديناميكية الأفكار، في حين أن دراسة الأيدلوجيات هي تناول أفكار بعينها وتتبع تطورها ومقارنتها بغيرها.
ولا شك أن البحث في هذا المجال يجب أن يبدأ بدراسة الأيدولوجيا كنسق فكري فاعل والاتفاق على خصائص المنظومة الفكرية التي ينطبق عليها وصف أيدولوجية، حتى إذا ما تم الاتفاق على معايير التصنيف وقبلنا أن هذا النسق أو ذاك هو بالفعل أيدولوجيا، ننطلق إلى دراسة الأيدلوجيات المتباينة وتحليلها والمقارنة بينها.
وهناك سؤال أخير مهام أيضًا.. هو ما الذي نتعلمه أو نستفيده من كون الليبرالية أو النسوية أو الفاشية تصنف باعتبارها أيدولوجيات، وما دلالة هذا للبحث والفهم والتفسير.
سلبية أم إيجابية؟
أول مشكلة تواجه الباحث في طبيعة الأيدولوجيا وماهيتها هي تعدد التعريفات لهذا المصطلح بشكل كبير وأحيانًا متناقض، فهي تُعَدُّ أكثر المفاهيم مراوغة وإثارة للحيرة في مجال العلوم الاجتماعية برمته.
فالأيدولوجيا من المفاهيم السياسية القليلة التي أثارت هذا القدر من الجدل والخلاف، وهناك سببان لذلك، أولاً: لأن المفهوم يجمع جوانب نظرية وعملية ويطرح إشكالية العلاقة بين الفكر والعقيدة من ناحية والسلوك من ناحية أخرى، وكذلك العلاقة بين المعطيات المادية والإدارة السياسية.
وثانيًا: لأن تعريف الأيدولوجيا ذاته لم ينجُ من النزاع بين الأيدلوجيات ذاتها في تعريف المفهوم وملامحه وأبعاده وتشابكاته النظرية والعملية، فقد استخدم المفهوم من جانب الأيدولوجيات المختلفة كسلاح في مواجهة خصومها، ونقد أفكارهم إما باتهامها أنها أيدلوجيات مثالية لا صلة لها بالواقع، أو العكس: باتهامها أنها مجرد أفكار متناثرة لا تشكل أيدولوجيا متكاملة صالحة للتطبيق الشامل لتغيير الواقع أو إصلاحه بشكل كلي.
ولم يكتسب مفهوم الأيدولوجيا طبيعة موضوعية ومحايدة في تحليل الأفكار إلا في النصف الثاني من القرن العشرين، وحتى مع هذه المحاولة لضبطه وإكسابه طبيعة تحليلية رصينة، فقد استمر الخلاف حول الأهمية الاجتماعية والدور السياسي للأيدولوجيا. وتُعَدُّ أكثر التعريفات شيوعًا للأيدلوجية هي أنها..
- نسق عقيدي سياسي
- مجموعة من الأفكار السياسية ذات توجه عملي/ تطبيقي.
- أفكار الطبقة الحاكمة.
- رؤية فئة اجتماعية أو طبقة للعالم.
- أفكار سياسية تعبِّر عن مصالح اجتماعية وطبقية.
- أفكار دعائية توظف لتزييف الوعي بين المستغلين والمضطهدين.
- أفكار تضع الفرد في سياقه الاجتماعي وتدعم الشعور بالانتماء والهوية الجمعية.
- مجموعة من الأفكار يدعمها النظام السياسي بشكل رسمي ويستمد منها شرعيته.
- مذهب سياسي شامل يدعي احتكار الحقيقة.
- منظومة نظرية مجردة ومتماسكة من الأفكار السياسية.
وربما كان أصل المصطلح هو من الأمور القليلة المتفق عليها، فكلمة أيدولوجية بدأ استخدامها إبان الثورة الفرنسية على يد "أنطوان ديستوت دوتراسي" (1754 – 1836م)، واستخدمت لأول مرة بشكل علني عام 1796م، وقد عرف "دوتراسي" الأيدلوجية بأنها علم جديد للأفكار، أي تعريف مرتبط بمعناها الحرفي:
فالشق الأول للكلمة هو مقابل الأفكار idea والثاني مقابل العلم ology.
وقد كان دوتراسي متأثرًا بالولع السائد حينئذ بفكرة العقلانية التي كانت في أوجها مع صعود مذهب الحداثة، ورأى أنه من الممكن موضوعيًّا اكتشاف جذور الأفكار ونشأتها وأن "علم الأفكار" هذا سيتطور؛ ليأخذ مكانه جنبًا إلى جنب مع العلوم المنضبطة كالأحياء والطب وغيرها، بل ولأن كل طرق البحث تتأسس على الأفكار؛ فإن علم الأفكار الجديد هذا سوف يصبح تاج العلوم.
ورغم هذا التقدير للأفكار عند نشأة استخدام مصطلح الأيدولوجيا وعلو الآمال التي كانت معقودة عليه، فإن هذا الفهم والتصور للأيدولوجيا يختلف عن تعريفاتها وتصوراتها اللاحقة وما آلت إليه.
وقد حاول التمييز بين مفهوم جزئي ومفهوم شامل للأيدولوجية، فالأيدولوجيات الجزئية هي أفكار ومعتقدات أفراد بعينهم أو جماعات أو أحزاب، في حين أن الأيدولوجيات الشاملة هي مجمل الرؤية للحياة والعالم لطبقة اجتماعية أو لمجتمع أو لحقبة تاريخية معينة.
وبهذا المعنى فإن الماركسية والليبرالية بل والصحوة الإسلامية يمكن وضعها جميعًا بأنها أيدلوجيات شاملة.
وقد أدى هذا إلى عودة الاستخدام الضيق ذي الدلالة السلبية لمفهوم الأيدلوجية كما يبرز في كتابات "كارل بوبر" (1902 - 1994)، و"هانا أرندت" (1906 - 1975) و"جي . إل. تالمون" و"برنارد كريك" ومنظري (نهاية الأيدلوجية)، والذين رأوا أن الأفكار الشاملة بالضرورة شمولية، فالفاشية والشيوعية مثالان بارزان للأيدولوجية بمعناها القمعي المعادي للحرية، وطبقًا لهذه الكتابات فإن الأيدولوجية هي أنظمة فكرية مغلقة تزعم احتكار الحقيقة وترفض قبول الأفكار المخالفة والعقائد الأخرى، فالأيدولوجية حسب وصفهم هي أديان وضعية تملك طبيعة الشمول، وتستخدم كأدوات في الضبط الاجتماعي، وضمان الخضوع والتواؤم مع السائد، لكن وفقًا لهذا المعيار فإنه ليست كل العقائد السياسية يصلح وصفها بالأيدولوجية، فالليبرالية بتأسسها على الالتزام بالحرية والتسامح والتعدد هي أبرز مثال على وجود نظام مفتوح للأفكار في نظر مفكر مثل "كارل بوبر".
المحافظون أيضا رأوا الأيدولوجية كقرين الجمود والتحجر الفكري وأنها منفصلة عن الواقع المركب للحياة؛ لذا فقد رفض المحافظون أن تخضع السياسة للأيدلوجية، وأن يكون هدف العمل السياسي هو إعادة تشكيل العالم بناءً على أفكار مجردة أو نظريات مسبقة، وقد ظلت هذه هي رؤية المحافظين، حتى بدأ تأثير اليسار الجديد يغير بعضًا منها بعد أن ظلوا لفترة طويلة يتبنون الموقف التقليدي الذي يرفض الأيدولوجيا لصالح السعي العملي في الممارسة السياسية، ويرى في الخبرة والتاريخ – وليس النظرية والفلسفة – أفضل مرشد للسلوك الإنساني.
ومنذ الستينيات من القرن العشرين عاد استخدام مفهوم الأيدلوجية وفق احتياجات التحليل الاجتماعي والسياسي، وتم إعادة تشكيله ليعود للمفهوم طبيعته المحايدة الموضوعية بعد أن زالت الارتباطات السلبية بينه وبين توجهات الأنظمة أو سياسات بعينها.
العلاقة بين الأيدولوجية والحقيقة:
ما هي العلاقة بين الأيدولوجية والحقيقة، وبأي معنى يمكن النظر للأيدولوجية كنوع من القوة؟
يثير أي تعريف قصير مختصر للأيدولوجية من الأسئلة بأكثر مما يقدم من إجابات، لكنه يمثل على أية حال بداية جيدة للبحث في الموضوع.
فلنقبل مبدئيًّا أن الأيدولوجية تعريفها الواسع هي أنها مجموعة من الأفكار المتجانسة بدرجة أو أخرى والتي تمثل الأساسي لحركة سياسية منظمة، سواء أكان هدفها المحافظة على نظام القوى السائد، أو تعديله، أو الإطاحة به.
ولذا فإن كل الأيدولوجيات: (أ) تقدم تصورًا للنظام القائم وعادة ما يتم هذا في صورة رؤية للعالم. (ب) تقدم نموذجًا للمستقبل المنشود أو المجتمع الأفضل/ الصالح. (ج) تصور كيف يمكن أن يتم التغيير.
وهذا التعريف ليس جديدًا ولا مستحدثًا، وهو يتفق مع الاستخدام الاجتماعي العلمي للمفهوم، إلا أنه يلفت الانتباه في الوقت نفسه لبعض أبرز خصائص ظاهرة الأيدولوجية، ويؤكد بخاصة على أن تركيب مفهوم الأيدولوجية يرجع إلى كون المفهوم يتجاوز الحدود الفاصلة بين الفكر الوصفي والفكر المثالي القيمي، وبين النظرية السياسية والممارسة العملية، فالأيدولوجية باختصار تقوم بنوعين من التركيب أو التأليف: التأليف بين الفهم والالتزام، وبين الفكر والحركة.
وبالنسبة للمركب الأول فإن الأيدولوجية تتخطى الفاصل بين "ما هو كائن" و "ما ينبغي أن يكون"، فالأيدلوجية وصفية؛ لأنها تزود الأفراد والجماعات بخريطة فكرية توضح كيف تدور آلة المجتمع، وكذلك تزوِّدهم برؤية للحياة والعالم، وبذا تلعب الأيدولوجية دورًا مهمًّا في دمج الأفراد والجماعات - عبر هذا الفهم - في بيئة اجتماعية ما.
لكن هذا الفهم الوصفي مقترن بقوة بنسق من القيم العقيدية والرؤى العلاجية التي بها يتم تقويم الترتيبات الاجتماعية القائمة وطبيعة المستقبل، والصورة المنشودة للمجتمع في المستقبل.
الأيدولوجية لذا لديها آثار نفسية/عاطفية قوية، فهي وسيلة للتعبير عن الآمال والمخاوف، والميول والنفور، كما أنها تقوم ببلورة العقائد والرؤى، والتعبير عنها بوضوح.
ونظرًا لارتباط الطبيعة الوضعية بالطبيعة الاستشراقية للأيدولوجية فإن الحقائق في ظل الأيدلوجية تختلط بالقيم، ويترتب على هذا عدم وجود فواصل واضحة بين الأيدلوجية والعلم؛ لذا فإنه من المفيد التعامل مع الأيدولوجيات باعتبارها أنساقًا معرفية كما صاغ هذا الاصطلاح "توماس كوون" في كتابه الشهير "بنية الثورات العلمية" (1962م)، فالأيدولوجية يمكن النظر إليها باعتبارها منظومة مبادئ ومذاهب ونظريات تساعد على ضبط بنية عملية البحث العلمي.
وفي الواقع فإن الأيدولوجية تشكل إطارًا يمكن داخله لعملية البحث عن المعرفة السياسية أن تتم وهي تقدم لغة للخطاب السياسي.
والمثال البارز في هذا الصدد هو أن العلوم السياسية عند تدريسها في المجال الأكاديمي - وكذلك علم الاقتصاد - تستند إلى افتراضات المذهب الفردي والمذهب العقلاني، وهما يرتبطان بالتراث الليبرالي.
وتبرز أهمية الأيدولوجية أيضًا كإطار فكري أو لغة سياسية في كونها توضح بجلاء درجة العمق التي يتشكل عبرها الفهم الإنساني.
كذلك من المفيد إلى جانب مقارنة الأيدولوجيات تأمل كيف تتنوع الاختلافات داخل الأيدولوجية الواحدة، فالأفكار متغيرة وتنمو وتتطور، وليست أحجارًا صماء لبناء صلب، وأحيانًا يكون التجادل والنزاع بين تيارات الأيدولوجية الواحدة أكثر حدة ومرارة منها بين أنصار أيدولوجيات مختلفة، ويصبح مركز الخلاف هو ما هي الأيدلوجية "الحقيقية"؟
وأي فريق يمثلها؟ ما هي الاشتراكية "الحقيقية" وما هي الليبرالية "الحقيقية" أو الفوضوية "الحقيقية"؟ ومما يزيد الأمر اختلاطاً وبلبلة أن كل الفرقاء داخل ذات الأيدولوجية أو عبر الأيدولوجيات المختلفة يستخدمون نفس المفاهيم والخطاب ويدافعون، كل من وجهة نظره، عن الحرية والعدالة والديمقراطية والمساواة – وفقاً لتعريفهم هم. وهذا هو ما دفع بعض المفكرين لوصف الأيدولوجية بأنها من المفاهيم الأساسية المتنازع عليها؛ لأن حوله خلاف عميق ولا يمكن بالتالي تطوير تعريف دقيق له.
ورغم ذلك فلا شك أنه لا بد من وجود حد أدنى من الاتفاق والتجانس وحدًّا لمرونة والتنوع، ولا بد من أن توجد نقطة يصبح فيها ترك مبدأ جوهري أو اعتناق نظرية مرفوضة من الأيدولوجية تاريخيًّا بمثابة فقدان للملامح الأساسية للأيدولوجية أو ربما ذوبانها في أيدولوجية منافسة، وهو ما يحدث تاريخيًّا أحياناً.
فهل يمكن أن تظل الليبرالية هي الليبرالية إذا تخلت عن التزامها بالفردية؟ وهل تبقي الاشتراكية هي الاشتراكية إذا نزعت إلى العنف والحرب؟ أو تظل أيدولوجية الحركات الإسلامية "إسلاموية" – كما يسميها البعض قياساً على الأيدلوجيات الأخرى – إذا تنازلت عن تحكيم الشريعة مثلاً؟!
أحد سبل التعامل مع هذه المشكلة هو ما يقترحه مايكل فريدان من تحديد لتشكل الأيدولوجية وبنيتها ومكوناتها وذلك من خلال مفاهيمها الأساسية، ويشبه ذلك التعرف على غرف المنزل من خلال نوع الأثاث في كل غرفة، فكل أيدولوجية تتسم بما يعتبر لب أو جوهر يتكون من عدة مفاهيم أساسية، ثم مفاهيم هامة، وأخيراً مفاهيم هامشية لا يلزم وجودها في النظرية أو المذهب بالضرورة كي يصنف داخل هذه الأيدولوجية.
فانتقاص مكوِّن من مكوناتها قد لا يعني أنها لم تَعُد هي ذاتها، كما أن الزمن يحمل معه مستحدثات وإضافات.
وعلى سبيل المثال يمكن اعتبار الفردية والحرية والعقلانية هي جوهر المفاهيم الأساسية في الليبرالية؛ وغياب أحدها لا ينقص من مشروعية مذهب من المذاهب الليبرالية، لكن غياب مفهومين منهما هو إرهاصة بنشوء بنية أيدلوجية جديدة.
ولكن ماذا يفيدنا ما سبق في فهم العلاقة بين الأيدولوجية والحقيقة؟
فبالنسبة لماركس كانت الأيدولوجية – كما سلف الذكر – هي العدو اللدود للحقيقة، والباطل هو قرين الأيدولوجية؛ لأن الأخيرة هي من صنع الطبقة الحاكمة لتقر واقع الاستغلال والقهر.
ولكن – كما ذهب مانهايم – فإن قبول رأي ماركس بأن الطبقة العاملة (البروليتاريا) لا تحتاج لوهم الأيدولوجية هو في الحقيقة قبول بتصور بالغ المثالية للجماهير العاملة كأكثر فئات البشر التزامًا بالمساواة، ولكن ما قدمه مانهايم من تصور لحل هذه الإشكالية بوجود طبقة مستقلة من المثقفين لم يحل الإشكالية بدوره.
فوجهات نظر البشر تتأثر بشكل واعٍ أو غير واع بعوامل اجتماعية وثقافية، وفي حين يعطي التعليم الإنسان أدوات تمكنه من الدفاع عن هذه الرؤى بطلاقة وقدرة على الإقناع بها، ولكن هذا لا يعني أن وجهات نظر المثقف تكون أقل ذاتية أو أكثر موضوعية من غيرها من الأفكار.
وفي الواقع فإنه لا يوجد معيار موضوعي يمكن بناء عليه اختبار حقيقة الأيدولوجية، بل إن الزعم بأن الأيدولوجية تحتمل الخطأ أو الصواب المطلق، يتعارض مع جوهر الأيدولوجيات وهي أنها مزيج من القيم والأحلام والتطلعات، وأنها بحكم طبيعتها لا يمكن إخضاعها للتحليل العملي، فلا يمكن لأحد أن "يثبت" أن أية نظرية للعدالة هي أفضل من غيرها بالضبط، كما لا يمكن استخدام الوسيلة الجراحية على الإنسان للتأكد – بشكل نهائي وحاسم – من كونه أهل للحرية أو أنه يملك حقوقاً أساسية أو أنه بطبيعته أناني أو اجتماعي!
ففي نهاية الأمر يقل اعتناق الفرد للأيدولوجية أحياناً؛ لأنها ليست دقيقة ولا يمكن إخضاعها للتحليل المنطقي، ولكن على الجانب الآخر قد يزيد تمسك الفرد بها؛ لأنها تعين الأفراد والجماعات والمجتمعات على إعطاء المعنى وفهم العالم الذي يعيشون فيه.
ورغم ما سلف فإن الأيدولوجيات ولا شك تتضمن كشفاً عن حقيقة، ويمكن وصفها بأنها منظومات للحقيقة من خلال ما تزودنا به من لغة خطاب سياسي ومسلمات وافتراضات حول حقيقة المجتمع وما يجب أن يكون عليه، فالأيدولوجية تحدد كيف نفكر وكيف نتصرف، ولا ينفصل تصورها للحقيقة عن مسألة السلطة، ففي عالم يموج بالحقائق المتعارضة والقيم والنظريات المتباينة، فإن كل أيدولوجية تسعى لإعطاء الأولوية لقيم بعينها وتضفي الشرعية على نظريات ومعاني محددة.
ولأن الأيدولوجية تزوِّدنا بخريطة فكرية للواقع الاجتماعي فإنها تساعد في تأسيس علاقة بين الأفراد والجماعات من ناحية، وأبنية وعلاقات القوة والسلطة من ناحية أخرى، وبذلك تلعب دوراً محوريًّا في دعم أبنية السلطة القائمة وتحديد ما إذا كان يمكن اعتبارها عادلة، وطبيعية ومشروعة، أو العكس من ذلك بتسليط الضوء على المظالم وعدم المساواة ولفت الانتباه لضرورة صياغة رؤى لأبنية بديلة للسلطة.
موت الأيدولوجيا
هل ماتت الأيدولوجيا ؟ هل شهدت ذروتها مع الحرب الباردة، ثم مع انهيار المعسكر الشرقي انتصرت الليبرالية وانتهى التاريخ (كما ذهب فوكوياما) وانتهت الأيدولوجيا؟
كان هذا مذهب العديد من المفكرين، مثلما كان رأيهم في انكسار الدين مع الحداثة والتحديث، ولكن كما كانت الصحوة الدينية عبر العقائد المختلفة في كل أنحاء العالم دليلاً على أن الدين والتدين مرتبط بالإنسان ككائن حي اجتماعي/ ثقافي مركب وأنه لا يموت، كذلك تدلنا الشواهد على أن الأيدولوجيات لا تموت؛ لأنها أفكار حول العدالة والحرية وتطلع الإنسان لها عبر مذاهب سياسية شتى، وهذا التطلع لا يموت.



هبة رءوف عزت


كلية الاقتصاد وعلوم سياسية / جامعة القاهرة


هناك تعليقان (2):

  1. جزاكم الله خيرا

    اوضح لنا مقالك الكثير من الامور

    ونريد توضيح ايضا

    يقر معنى السياسه في اذهان الناس

    يعني نريد اساسيات ومبادئ السياسه

    ردحذف
  2. بهذا التعريف

    كل الأيدولوجيات: (أ) تقدم تصورًا للنظام القائم وعادة ما يتم هذا في صورة رؤية للعالم. (ب) تقدم نموذجًا للمستقبل المنشود أو المجتمع الأفضل/ الصالح. (ج) تصور كيف يمكن أن يتم التغيير.


    لن ينتهى زمن الايديولوجيا
    ولكنى ارى تقاربا كبيرا بين
    الايديولوجيات وهناك تقلص للمسافات
    فالليبرالية والاشتراكية تقاربوا الى ما سمى
    الاشتراكية الديمقراطية كانظمة الحكم فى دول اسكندنافيا
    وحتى الحركات الاسلامية حدث تطور كبير فيها
    وما تجربة حزب العدالة فى تركيا الا مثال

    الموضوع شيق
    احييك مع تقديرى

    ردحذف